بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على نبيه الكريم
التعريف بالشيخ خليل بن إسحاق المالكي صاحب المختصر
1:اسمه ونسبه و مولده ونشأته
ترجم للشيخ خليل جمع كثير منهم: ابن فرحون في كتابه ( الديباج المذهّب في معرفة أعيان المذهب)، وبدر الدين القرافي في (توشيح الديباج وحلية الابتهاج )، والشيخ أحمد بابا التنبكتي في كتابه (نيل الابتهاج) ومختصره (كفاية المحتاج)،كما تعرّض لترجمته بعض شرّاح مختصره الفقهي،كابن مرزوق التلمساني، والشيخ ابن غازي صاحب ( إرواء الغليل)، والحطاب في كتابه ( مواهب الجليل لشرح مختصر خليل).
وأعتق كتب التراجم ـ خارج المذهب ـ التي تعرضت لنُتَف من حياة خليل ما ذكره الشيخ ابن حجر العسقلاني في كتابه ( الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة )، وكلّ من خاض في سيرته من بعده فهو ناقل عنه، ولم يزد معظمهم عمّا قاله شيئا يذكر.
أولا: اسمه ونسبه:
تكاد تجمع المصادر على أنّ اسمه هو خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، وهو المذكور في مقدمة مناسكه، وذكر ابن غازي بدل موضع موسى يعقوب، وعُرف بالجندي ويكنى بأبي المودَّة وأبي الضياء.
ثانيا: مولده ونشأته:
شحّت علينا كتب التراجم فلم تعطنا بيانا واضحا لمسار حياة الشيخ خليل، لا من حيث المولد، ولا من حيث مجريات يومياته، ما عدا ذكرهم لبعض جوانب طفولته وطلبه للعلم وأخلاقياته وتاريخ وفاته.
أمّا تحديد تاريخ مولده فلم أعثر على من أشار إليه ولم أظفر بمن صرّح به، فيبقى تحديده محلّ تكهن. ويمكن من باب التقريب أن نقول أنّه في حوالي سنة ( 700هـ) أو قبل ذلك بقليل.
والمقطوع به أنّ مولده كان بمصر باعتبار أنّ أسرته قطينة القاهرة، نشأ بها وعن شيوخها تعلّم، فقضى طفولته وشبابه وباقي أيامه بمسقط رأسه. ولا نعرف أنّه خرج من بلده سوى تنقله لآداء مناسك الحج. وقد روى البعض أنّه جاور بمكة مدّة لا يمكن تحديد أمدها، والغالب أنّها فترة قصيرة خصّها للتعبد وطلب العلم.
كما أنّنا لا نعرف شيئا عن حياة أسرته ماعدا ما ذكره عن والده عندما ترجم لشيخه المنوفي، فوصفه بأنه من أولياء الله الأخيار، وأنّه صاحب مكاشفات وأحد مريدي الشيخ محمد بن محمد العبدري المعروف بابن الحاج. ولعلّ كتابه الذي ترجم فيه لشيخه عبد الله المنوفي، لو تيسّر لأهل العلم تحقيقه ونشره سيزيل الكثير من الغموض الذي يكتنف جوانب شخصية خليل بن إسحاق الذي يُعد من أبرز علماء الفقه المالكي منتصف القرن الثامن.
2:وظيفته ومكانته العلمية
أولا: وظيفته:
لم يُعرف أنّ خليلا امتهن وظائف معيّنة كالقضاء أو ما شابه ذلك، ماعدا مزاولته للتدريس بالمدرسة الشيخونية بمصر بعد وفاة شيخه، وهي مدرسة مشهورة لا يُؤهّل إليها إلاّ أفذاذ العلماء الأعيان منهم، فعلَّم فيها فنونا متنوعة كالفقه والعربية وتخرّج على يديه خلق كثير.
ثانيا: سيرته ومكانته العلمية:
بدأ حياته العلمية كطالب علم، ساقه والده الحنفي المذهب إلى حلقة الشيخ عبد الله المنوفي العالم الرباني والصوفي الزاهد، ليكرع من أدبه قبل علمه، فأخذ عنه الفقه المالكي واستفاد منه كثيرا؛ لبراعة المنوفي وتفوقه في هذا المجال، وخاصّة استيعابه لجامع الأمّهات لابن الحاجب، وقد ختمه خليل عليه قراءة وفهما.
عُرف خليل بإقباله على المُدارسة وإصلاح الحال، بتجلّد وصبر وهمّة عالية تتذلل أمامها مشاقّ التعلم، فكان لا يعطي لحظّ نفسه من الوقت إلاّ القليل، فقد روى بعضهم أنّه لم ير النيل رغم مجاورته له قرابة عشرين سنة لاشتغاله بالبحث والمطالعة.
قال ابن مرزوق: (( سمعت من غير واحد أنّه من أهل الدين والصلاح، مجتهد في العلم إلى الغاية، حتى أنّه لا ينام في بعض الأوقات إلاّ زمنا يسيرا بعد طلوع الفجر للإراحة من جهد المطالعة والكتب )).
ولعلّ ما يثبت هذا التفاني في البحث والتنقيب الذي أشار إليه ابن مرزوق التلمساني ما ذكره غيره (من أنّه أقام على تأليف مختصره خمسا وعشرين سنة )، فجاء ما كتبه كالبرنامج الفقهي،(( قالوا إنّه احتوى مائة ألف مسألة منطوقاً، ومثلها مفهوماً.))، وعملٌ مثل هذا وبهذا الإتقان لا يكون إلاّ لمتجرِّد للبحث حريص على التعلم. ومقدرة خليل بن إسحاق العلمية ظهرت في مصنفاته الثلاثة ( التوضيح والمختصر والمناسك) التي نقل منها العلماء كثيرا و اعتمدوها ، وخاصّة مختصره الفقهي وكتابه التوضيح. فالإلمام بفروع المذهب الكثيرة المتشعبة – مع كثرة الاصطلاحات التي يتميز بها الفقه المالكي عن غيره ـ والخروج بالمشهور من هذه التفريعات ليس بالأمر الهيّن، وما هو بالمستطاع إلاّ لخواص العلماء.
لقد أَقَرَّ جلّ العلماء له بالتفوّق وأذعن الخواص منهم لفضله، وقد يكون من المفيد أن نسوق ما ذكره مترجموه من الثناء عليه والعرفان بفضله، وما حلاّه به العلماء من أوصاف كلّها إقرار بمكانته وعلوّ كعبه عند من عاصروه أو الذين جاءوا من بعده.
قال ابن فرحون صاحب الديباج ـ وهو ممّن اجتمع به وحضر دروسه في الفقه والحديث والعربية ـ: ((كان رحمه الله صدرا في علماء القاهرة المُعزّية، مجمعا على فضله وديانته، أستاذا ممتعا من أهل التحقيق، ثاقب الذهن، أصيل البحث، مشاركا في فنون من العربية والحديث والفرائض، فاضلا في مذهب مالك صحيح النقل.))
قال بدر الدين القرافي: ((الإمام العالم العلامة، القدوة الحجة، الفهّامة، جامع أشتات الكمالات بفضائله، حامل لواء المذهب المالكي على كاهله، غرسُ الدين..))
وقال أيضا: ((ولقد أذعن علماء المغرب لفضله وجلالته حتى أن العلامة ابن ناجي أحد جماعة ابن عرفة في شرح التهذيب في غير موضع ساق كلام الشيخ خليل على طريق الاستدلال على ما صدرت المخالفة فيه بينه وبين مشايخه )). قال أحمد باب التنبكتي: (( وكفى بها حجة على إمامته ))، وقال صاحب الكفاية: (( الإمام العلامة القدوة الحجة الفهّامة، حامل لواء المذهب بمصر في وقته))
وامتدحه الشيخ ابن عاشر ـ الذي شغف بحب مصنفات خليل وخاصة كتابه التوضيح ـ فقال:
خليلي خليل قد شغفت بحسنه
وتوضيحه صبحا بزينة حاجبه
وآليت لا آلوه شرحا لغامض
من الودّ يرضاه خليل وحاجبه
: 3 ـ شيوخه وتلامذته ووفاته
أولا: شيوخه:
أخذ الشيخ خليل بن إسحاق عن عدة شيوخ ، منهم:أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي المعروف بابن الحاج ت737هـ فقيهٌ ، جامعٌ بين العلم والعمل، ومن أهم ما تركه كتابه ( مدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة ) المعروف بين الناس بالمدخل
ومنهم:محمد بن عبد الرحمن بن البرهان الرشيدي (ت754هـ
ذكر ابن حجر أنّه من شيوخ خليل،ومنهم :ابن عبد الهادي عبد الغني
ذكره ابن حجر في الدرر، وكذا الحطاب في مواهب الجليل.
ومنهم:البهاء عبد الله بن خليل المكنى بأبي داود الترمذي ,أشار الحطاب في مواهبه أن خليلا قرأ عنه.
ومنهم: عبد الله بن محمد بن سليمان المنوفي (ت749هـ
مغربي الأصل، مصري النشأة والدار، يُعَدّ من أهل الفضل والصلاح؛ إذ اشتهر بالديانة والعبادة والزهد ، وقد قال الشيخ خليل في الترجمة التي جمعها له، ((كان يتكلم في المعارف كلامَ مَن هو قطبُ رحاها وشمسُ ضحاها، وكان يتكلم على رسالة القشيري وتفسير الواحدي والشفا للقاضي عياض، وكان يشتغل في العربية والأصول ولكن في الفقه أكثر، وقد شهد له معاصروه بأنّه كان أحسن الناس إلقاءً للتفسير.))
ثانيا: تلاميذه:
تصدى الشيخ خليل للتدريس بالمدرسة الشيخونية تكملة لمهمة شيخه المنوفي، فتخرّج على يديه خلقٌ كثير، لا عرف من أسماء هذا الجمع إلاّ خمسة، وهم الذين اشتهروا من تلامذته، إضافة أنّهم أوائل من تعرض لشرح مختصره ، وهم:
– عبد الخالق بن على بن الفرات (ت794هـ1
أخذ الفقه عن الشيخ خليل وغيره، وانتسابُه إلى خليل أشهر، ذكره السخاوي في وجيز الكلام. من مؤلفاته: شرح على مختصر شيخه.
– بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدميري تاج الدين ت805 هـ2
فقيهٌ حافظ، تولى القضاء بمصر، والتدريس بالمدرسة الشيخونية. أخذ عن مشايخ عصره، منهم خليل بن إسحاق وبه تفقه وانتفع، وأخذ عن شرف الدين الرهوني وإبراهيم اللقاني.
ترك عدّة مؤلفات: منها شرحه للمختصر، وضع عليه ثلاثة شروح: الصغير المسمّى بالدرر، والشرح الأوسط والكبير,
3- خلف بن أبي بكر بن أحمد النحريري ت818 هـ
برع في الفقه، ودرّس وأفتى ، وتولّى القضاء بمصر، لازمَ المدينة المنورة معتنيا بالتدريس والإفادة والعبادة.
4- جمال الدين بن عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي ،ت 823 هـ
فقيهٌ تولّى القضاء بمصر، اشتهر بالعفة ودماثة الأخلاق، أخذ الفقه عن خليل وغيره. انتهت إليه رئاسة المذهب بمصر وتقدم فيه، ودارت عليه الفتوى. له: تفسيرٌ في ثلاثة مجلدات، وشرحٌ على رسالة أبي زيد القيرواني، وشرحٌ على مختصر خليل في ثلاثة أسفار.
5- يوسف بن خالد بن نعيم البساطي ت829هـ
أخذ عن الشيخ خليل وأخيه سليمان بن خالد، والشيخ يحي الرهوني، وابن مرزوق… وغيرهم. تولّى منصب القضاء بمصر، وكان فاضلا في عدة علوم. ترك مصنفات كثيرة منها: شرح قصيدة بانت سعاد، سمّاه: الإفصاح والإرشاد، وشرح مختصر خليل سماه: الكفء الكفيل، وشرح البردة، والقصيدة الفلكية، وألفية ابن مالك، وله محاضرة خواص البرية في الألغاز الفقهية، وإعراب من سورة الطارق إلى آخر القرآن.
ثالثا: وفاته:
اختلف أهل التراجم في تحديد تاريخ وفاة الشيخ خليل، فالذي ذهب إليه المغاربة أنّه توفى لثلاث عشر من شهر ربيع الأول من سنة (776هـ/1374م)، نقله ابن مرزوق في مختصره سماعاً من الشيخ تاج الدين الإسحاقي، وهو من أصحاب خليل ومن حفّاظ المختصر. وكذا نقله ابن غازي في ديباجة شرحه للمختصر نقلا عن ابن مرزوق. وتبعه في ذلك ناصر الدين اللقاني والتتائي وغيرهم، وهذا التاريخ أقرّه وشّهره جمع غفير من شُرّاح المختصر. وذكر الشيخ زروق تاريخا آخر لوفاته فحدده بسنة (ت769هـ)، أمّا ابن حجر العسقلاني (ت852 هـ) في كتابه ( الدرر الكامنة ) فذكر أنّه توفي سنة (767هـ)، وتبعه في ذلك المؤرخ شمس الدين السخاوي (ت902هـ) في كتابه ( وجيز الكلام ). ومال بدر الدين القرافي (ت946هـ) في كتابه ( توشح الديباج ) إلى ترجيح هذا التاريخ، حيث قال: (( لكن الحافظ ابن حجر أعلم بذلك لكونه من بلده، وله مزيد الثبت في هذا الشأن )) ، وكذا رجّح الحطاب هذا التاريخ فقال: ((والصواب ما ذكره ابن حجر والفاسي )). أمّا الشيخ أحمد بابا التنبكتي فقد رجح التاريخ الأول الذي أشرنا إليه في أُنف الكلام، حيث قال معقِّباً على كلام ابن مرزوق: (( وهذا أصّح ممّا قبله وممّا ذكره ابن حجر )).
ونقل ابن فرحون تاريخاً آخر لوفاة الشيخ خليل عندما حدده بسنة (749هـ)، قال الحطاب فيه: (( إنّما هو تاريخ وفاة الشيخ عبد الله المنوفي؛ لأنّه ذكر أنّه مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالطاعون، وكذالك ذكر الشيخ خليل في تاريخ وفاة شيخه في الترجمة المذكورة، وقال: في سابع رمضان، ووَهم في ذلك بعض الناس فظنّ أنّها للشيخ خليل)). قال العلامة : محنض باب بن أعبيد الديماني,
مات خليل الفقه عام (وعذ) =وشيخه المنوفي عام (طمذ)
“وعذ” =776 هـ , و “طمذ” = 749هـ
4:مؤلفاته:
اتفقت المصادر المترجمة للشيخ خليل أنّه ألّف سبعة كتب وهي:
1- التوضيح:
من أهم الشروح التي وضعت على جامع الأمهات لابن الحاجب كتاب التوضيح للشيخ خليل ابن إسحاق، انتقاه من شرح ابن عبد السلام، وزاد فيه عزْو الأقوال وإيضاح ما فيه من الإشكال، فهو كتاب الناس شرقا وغربا، ليس من شروحه على كثرتها ما هو أنفع منه ولا أشهر. قال أحمد التنبكتي:((أمّا توضيحه فليس من شروحه على كثرتها ما هو أنفع منه ولا أشهر، اعتمد عليه حفّاظ المذهب من أصحاب ابن عرفة وغيرهم)).
اهتم العلماء بتدريسه وشُغلوا به ، وقد شرحه بعضهم كالشيخ شمس الدين اللقاني (ت935هـ)، وجمع بدر الدين القرافي (ت 946هـ) طُرره في مجلدين، ولأبي بكر بن إسماعيل الشنواني (1019هـ) حاشية عليه في مجلدات لم تكمل، كما شرحه محمد بن سليمان السوسي الروداني (ت1094هـ)… وغيرهم.
2-شرح التهذيب.
لم يكمله، وصل فيه إلى أواخر الزكاة، ذكر القرافي أنّه شرح قطعة من التهذيب وسماه: ( التبيين).
3- ترجمة الشيخ عبد الله المنوفي
ألّف الشيخ خليل كتابا تعرّض فيه لمناقب شيخه المنوفي، وكلّ من ترجم للشيخ خليل نسب إليه هذا التأليف. قال ابن حجر:((وقد جمع الشيخ خليل المالكي له ترجمة مفيدة وذكر فيها من كراماته شيئا، ومن أوصافه الجميلة وأخلاقه المرضية ما يشهد بعِظَم مقامه )). ومثله ذكر السخاوي فقال:(( أفرد تلميذه الشيخ خليل ترجمته )). وقد اقتبس ابن حجر من هذه الترجمة أثناء سرده لسيرة الشيخ المنوفي.
تناول خليل في هذا الكتاب سيرة شيخه من حيث علومه وشيوخه وأحواله، وأورد فيها شيئا من كراماته ومكاشفاته، وحلاّه بالأوصاف الجليلة الدالة على عِظَم مقامه. قال ابن حجر: ((وهي تدل على معرفته بالأصول)).
4-شرح ألفية ابن مالك
5-كتاب الجامع
رسالة صغيرة في الآداب والسلوك، تحدّث فيها عن العبادة والعلم وتطهير النفس، وفضائل الأخلاق ورذائلها، وما يجب من اللّباس وما يحرم منه، وأقسام السفر وآدابه، وخصال الفطرة، وحقوق المسلم على المسلم، ومعاملة من كان غالب ماله حرام… الخ.
6-مناسك خليل
كتاب نفيس ألّفه بعد كتابه التوضيح وقبل مختصره الفقهي، بيّن فيه الأحكام المتعلقة بالحج، فغدا مرجع الفقهاء ومُعتمدهم. نقل منه أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق (ت897هـ) في شرحه على المختصر المسمى: ( التاج والإكليل لمختصر خليل)، وكذا الحطاب في (مواهب الجليل)، واستدرك عليه مآخذ خصّها بتأليف خاص سمّاه: (هداية النّاسك المحتاج لبيان فعل المعتمر والحاج)، كما اعتمده أيضا الخرشي، والشيخ الدردير، أمّا الشيخ ميارة الفاسي في (كتابه الدرّ الثمين والمورد المعين) فقد جعله محلّ ناظره؛ إذ اقتبس منه كثيرا.
وقد سلك خليل فيه منهجا يتماشى مع مقصده من تأليفه، بحيث ركز على الأهم مما يحاجه الطالب المبتدئ، كما أنه لم يتوسع في التفريعات الفقهية إلا بقدر الحاجة ،
7- مختصـر الشيخ خليل بن إسحاق الفقهي
وكم آخر في رتبة التقديم …
المختصر هو آخر مؤلفات الشيخ خليل، مكث في تحريره أزيد من عشرين سنة، وهي فترة زمنية عادة ما تُخصص للمطولات من أمهات الكتب، وبقاء المؤلف مدة مثل هذه، دليل على شدّة حرصه وتوخيه الدقة العلمية في جمع أحكامه وتنظيمها، ولذا جاء مقتضبا في ألفاظه، دقيقا في مصطلاحاته، جامعا لمعظم أمّهات مسائل الفقه المالكي.
أولا: في وصف المختصر:
ازدادت شهرة خليل داخل المذهب وخارجه، عند ظهور مختصره الفقهي الذي لخّص فيه جامع الأمهات لابن الحاجب، وأتى فيه بالعجب من حيث الإيجاز، والمقدرة الذهنية على استيعاب المسائل وحصرها في ألفاظ جزلة جمع فيها شتات الفروع الكثيرة المتنوعة، وأوضح فيها المشهور المعمول به مجردا عن الخلاف.
أثنى العلماء على مختصره فأطنبوا في مدحه وذِكرِ أوصافه، فقال الشيخ ابن غازي فيه في مقدمة شرحه: (( …إنّ مختصر الشيخ العلامة خليل بن إسحاق من أفضل نفائس الأعلاق، وأحق ما رمق بالأحداق، وصُرفت له همم الحذّاق…)). وقال الحطاب: (( مختصر الشيخ العلامة ولي الله خليل بن إسحاق الذي أوضح به المسالك إذ هو كتاب صغر حجمه وكثر علمه وجمع فأوعى وفاق أضرابه جنسا ونوعا واختص بتبيين ما به الفتوى وما هو الأرجح والأقوى لم تسمح قريحة بمثله ولم ينسج على منواله إلاّ أنّه لفرط في الإيجاز كاد يعد من جملة الألغاز )). قال في كفاية المحتاج: (( وقد عكف الناس على مختصره وتوضيحه شرقاً وغرباً حتى اقتصروا في بلاد المغرب كفاس ومراكش في هذا الوقت على المختصر فقط،).
ثانيا: أبواب المختصر وفصوله.
رتب خليل كتابه على أربعة وستين بابا وفق الترتيب الذي سار عليه صاحب المدونة، ومشى فيه وفق منهج ابن الحاجب في كتابه جامع الأمهات، الذي سلك فيه طريقة كتاب الحاوي عند الشافعية.
ووصل في تبيضه إلى باب النكاح إلا أنّ المنية عاجلته فلم يتمكن من إكماله، فترك باقيه مسودة قام بجمعها تلامذته، وألّف تلميذه وصهره بهرام باب المقاصة التي أغفله المؤلف، وأكمل تلميذه الأفقهسي جملة يسيرة منه ترك خليل لها بياضا.
ثالثا: مزايا مختصر خليل
1- أنّه احتوى على المتفق عليه بين علماء المذهب، فالطابع الغالب على منهج خليل في تحرير المسائل، هو الاعتماد على مشهور المذهب وتقديمه على غيره والاقتصار على به الفتوى فقط، وطرح كلّفة ما عداه على القارئ للبحث والتحرير.
فإذا تساوت الأقوال عنده في الدرجة، فإنّه يكتفي بالإشارة إلى الخلاف الحاصل ثم يبيّن موقف العلماء الذين أعتمدهم ومال إلى ترجيحهم.
2- توسعه في المصادر التي اعتمدها، وإن كان الغالب فيها المدونة والتهذيب.
3- احتوى مسائل وفروع فقهية كثيرة، وصل عددها نحو مائة ألف مسألة مأخوذة من منطوق كلامه، ومثلها من مفهومه، هذا من باب التقريب وإلاّ فالعدد أكثر من ذلك.
4- دقته في استعمال اللّغة، واختيار الألفاظ، وحسن توظيف الروابط وترتيبها، وهذا استدعى من الشرّاح الاعتناء بالإقراء، وحسن الأداء باعتباره سبيل لفهم عباراته.
5-القدرة على جمع النظائر الفقهية.
6-حسن الترتيب بين المسائل مع اختيار التقييدات المناسبة.
رابعا: أسلوب خليل وقواعده في المختصر
لخصّ ابن غازي والحطّاب أسلوب خليل وقواعده التي انتهجها في كتابه نوجزها في النقاط التالية:
1-أنه إذا جمع نظائر وكان في بعضها تفصيل أقره وقيده بأحد طرفي التفصيل، ثم يتخلص منه لطرفه الآخر مع ما يناسبه من الفروع.
2-إذا جمع مسائل مشتركة في الحكم والشرط نسقها بالواو، فإذا جاء بعدها بقيد علمنا أنه منطبق على الجميع ، وإن كان القيد مختصا ببعضها أدخل عليه كاف التشبيه، فإذا جاء بقيد علمنا أنّه لما بعد الكاف.
3-قد يذكر المسألة في غير فصلها، ليجعلها مع نظرائها، كقوله في فصل السهو: ( وتمادى المأموم وإن لم يقدرعلى الترك كتكبيره للركوع بلا نية إحرام، وذكر فائتة )، ليجمع بين النظائر المسماة بمساجين الإمام، وإن كان قد ذكر كلا من المسألتين في بابهما.
4-قد يذكر المسألة مفصلة في بابها ثم يذكرها مع نظرائها مجملة اعتمادا على ما فصله . كقوله في فصل الخيار ( وبشرط نقد كغائب)، فإنه قد قدم حكم النقد في الغائب مفصلا، ثم ذكره هنا مجملا.
قد يذكر في النظائر ما هو خلاف المشهور.5-
6-من قواعده استعمال لفظ الندب في الاستحباب، وإن كان في اصطلاح أهل الأصول شامل للسنة والمستحب والنافلة.
خامسا:مصادر خليل في مختصره
تعددت مصادر خليل في كتابه، فلم يعتمد على مصدر واحد، بل استقى مادة تأليفه من أمهات كتب المالكية، كالمدونة والتهذيب والنوادر والزيادات وعقد الجواهر والتلقين وغيرها، وقد حاول الشيخ المواق في شرحه على المختصر استجلاء النصوص التي اتكأ خليل عليها، فكانت شاهدة على صحة نقوله ووفرتها.
أما أهمها فهي التي أشار إليها في مقدمته حيث قال: (( ..مشيرا بفيها للمدونة، وبأول إلى اختلاف شارحيها في فهمها وبالاختيار للّخمي لكن إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره هو في نفسه، وبالاسم فذلك لاختياره من الخلاف، وبالترجيح لابن يونس كذلك،وبالظهور لابن رشد كذلك، وبالقول للمازري كذلك)).
سادسا:اصطلاح خليل
فيها:يقصد بها المدونة، وتارة يشير بها إلى التهذيب؛ لأنّه رحمه الله اعتمد على الأصل وعلى مختصره، قَالَ الْبِسَاطِيّ: (( والظّاهر أنَّه كان عِنده أجزاءٌ من الأُمِّ دون الكلِّ، ثم إنَّه رحمه اللَّهُ إنما يأتي بها غالبا لِكون ما فيهَا مُخَالِفًا لما رجحه ولِإِشْكَالِ ما فيها)).
أوّل: ويندرج في ذلك قوله (( تَأْوِيلانِ وَتَأْوِيلات ))، فهو يشير بها لاختلاف شرّاح المدونة في فهمها،ولو شرح منها هذا الحيثية فقط , وقد يكون أحد التَّأْويلاتِ موافقا للْمَشْهُورِ فَيُقَدِّمُهُ المصَنِّفُ ثم يَعْطِفُ الثَّانِي عليه
الاختيار:يشير به إلى اختيارات الشيخ اللّخمي في كتابه التبصرة، إلاّ أنّه إذا أشار إليه بصيغة الاسم نحو: المختار والاختيار، فإنما يقصد به اختيار اللّخمي من خلاف لمن تقدمه، وإذا أشار إليه بصيغة الفعل نحو: اختار واختير فلاختياره في نفسه.
الترجيح:مصطلح الترجيح يشير به لابن يونس، فإن ساقه بصيغة الاسم نحو: الأَرْجَحُ والمُرَجَّحُ، فلاختيار ابن يونس من خلاف سبقه، وإن أشار إليه بصيغة الفعل نحو: رجَّحَ فلاختياره هو في نفسه.
الظهور:أشار به لاستظهارات ابن رشد، فإذا أورده بصيغة الاسم نحو: الأَظهَرُ والظَّاهر، فلاختيار ابن رشد من خلاف تقدمه، وإن أشار إليه بصيغة الفعل نحو: ظَهَرَ فلاختياره في نفسه.
القول: أشار به للمازري فإذا ساقه بصيغة الاسم، فلاختياره من خلاف تقدمه نحو: القَولُ، وإن أورده بصيغة الفعل نحو: قال أو قيل فلاختياره هو في نفسه.
صُحح، واستُحسن: يشير به إلى غير الأربعة الذين ذكرهم ، قال ابن غازي: ((والأقرب إلى الحقيقة أن التصحيح فيما يصححه الشيخ من كلام غيره، والاستحسان فيما يراه ، مع احتمال الشمول فيهما )).
التردد: لفظ التردد أشار به لتردد الفقهاء المتأخرين؛ أي اختلاف طرقهم في العزو للمذهب، أو لعدم نص المتقدمين، وهو قليل في كلامه كما أشار إلى ذلك ابن غازي.
لـو: يشير به إلى خلاف داخل المذهب.
خلاف: أشار به إلى اختلاف العلماء في تشهير الأقوال، فإذا ذكر قولين أو أقوالا فذلك لعدم اطلاعه في الفرع على أرجحية منصوصة كما ذكر، فإذا تساوى المشهرون في الرتبة فإنه يكتفي بذكر الأقوال المشهورة، ويأتي بعدها بلفظ خلاف، أمّا إذا اختلفوا في المرتبة فإنّه يقتصر على ما شهره أعلمهم..
سابعا:اعتناء العلمـاء بمختصر خليل
حاز الاشتغال به جهد المدرسة المالكية من مطلع القرن التاسع إلى يومنا هذا،فاهتم العلماء بالمختصر شرحاً ونظماً، إذ كُتب عليه الكثير، وتَعرّض للتعليق عليه جمعٌ غفير
ظهرت أولى الشروح مطلع القرن الثامن الهجري، حيث انبرى لشرحه تلامذة خليل، فكان أولهم تلميذه بهرام بن عبد الله الدميري (ت 805 هـ )، الذي وضع عليه ثلاثة شروح، فكان أول من سهّل عباراته، ثم ألّف مختصرا حاكى في شيخه عُرف بالشامل، وكان من تلامذة خليل من شُرّاح المختصر أيضا: عبد الخالق بن على الشهير بابن الفرات (ت794هـ)، وخلف بن أبي بكر النحريري (ت818هـ)، وجمال الدين الافقهسي (ت823هـ)، ويوسف بن خالد بن نعيم الطائي (ت829هـ) وهؤلاء كلهم من مصر .
أما المغاربة فاعتنائهم به ظهر متأخرا لانشغالهم بكتاب التوضيح الذي حاز قدرا وافيا من الشرح والتحليل عند فقهاء الغرب الإسلامي، وكان أول من أدخل المختصر إلى تلمسان وأشاعه فيها الشيخ محمد بن عمر بن الفتوح التلمساني ثم نشره في فاس عند انتقاله إليها سنة 805 هـ، وأَقدَمُ من تعرض للمختصر بالشرح هو الشيخ ابن مرزوق الحفيد التلمساني (ت842هـ )، وضع عليه شرحا سماه المنزع النبيل، ثم جاء من بعده أحمد بن محمد بن زاغو التلمساني (ت845هـ) فكتب بعض التقييدات عليه لم تتجاوز الستة عشر بابا، ثم تتالت من بعدهما الكتابات والشّروح، فكان جملة من تعرض للمختصر في القرن التاسع الهجري، نحو 23 شارحا، كان خاتمتهم شرح الشيخ أحمد بن أحمد البرنسي، الشهير بزروق (ت 899هـ
واعتذر لكم عن الاطالة , لكن الكلام على الشيخ خليل و مختصره حقه أن تكتب عنه الكتب لا مقال واحد أو اثنان , والمصدر هو : موقع الملتقى الفقهي . و في الختام أعدكم أني سأنشر قريبا بحث عن شراح مختصر خليل الموريتانين و غيرهم , والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته
الوسومالعلماء العاملون كتب
شاهد أيضاً
الدرس الثاني والستون | مختصر الشيخ خليل
الدرس الثاني والستون من سلسلة دروس مختصر الشيخ خليل. وَأُمِرَ صَبِيٌّ بِهَا لِسَبْعٍ وَضُرِبَ …
السلام عليکم بارک الله فيکم وجزاکم الله خيرا