بقلم: الشيخ داداه ولد آباه
Cheikhdadah85@gmail.com
إن الحديث عن عالم ونحوي وأديب؛ طارت شهرته في الآفاق؛ وعم ذكره الأرجاء والربوع؛ مثل صاحب ” الكَدَّاهيَّة”؛ كان الأولى أن يطلع به غيري ممن خبروا تناول سير العلماء العظماء؛ وتمرسوا الكتابة فيها؛ ذلك أن الأمر يحتاج من أدوات الكتابة ما لا أملكه؛ ومن معايشتها ما لم يحصل معي.
ونظرا لما وجدته من تقصير في تناول عالم مثل “ابن كداه” كان لابد من ركوب موج المخاطرة؛ سعيا إلى إضاءة جوانب من حياة رجل ظل – ولا يزال – نبراسا يشع في كل قلاع العلم؛ وبالأخص علوم الآلة (علوم اللغة) التي كانت له قدم راسخة فيها.
وستكون هذه الإضاءة مختصرة بشدة؛ إذ الغاية منها ليس حصر مناقب الرجل وجمع سيرته – وأنى لي ذلك – وإنما هي إشارة وتنبيه؛ من شأنه حمل الباحثين إلى تتبع الموضوع والتوسع فيه كتابة وتأليفا؛ واتكئ في مطلبي هذا على بيت العلامة محمد مولود ابن أحمد فال (آد) المثبت في كتابه (الكفاف) حيث يقول:
هذا وإني لَمْ أَكُن جُذَيْلَهْ *** لَكِن تطَفَّلتُ علَي سُخَيْلَهْ
ينتسب العلامة النحوي أحمد بن كَدَّاه إلى مجموعة (قبيلة) إكمليلن المشهورة؛ المتواجدة في الناحية الجنوبية الغربية (القبله ساحل) من موريتانيا على أرض اترارزه وبالتحديد خط شمامه في ضواحي وحدود مقاطعة كرمسين؛ وهي من قبائل الزوايا التي انتجعت في تلك الربوع.
وقد أسست هذه القبلية عدة محاظر هي من أقدم وأهم محاظر الناحية الجنوبية الغربية من البلد؛ عرفت أول نشاط لها مع نهاية القرن الثامن الهجري وبداية القرن التاسع الهجري؛ بحسب ما ذهب إليه الأستاذ والباحث الشيخ أحمد سالم بن أحمدو بن بيي الملقب (آشاه) في بحثه المعنون بـ” أضواء على المحظرة الكمليلية خلال القرن الثالث عشر الهجري”.
وظلت المحظرة الكمليلية في تلك الحقبة – وما بعدها – موئلا لعدد كبير من طلاب العلم؛ كما انتسب إليها عدد من فطاحل العلماء؛ منهم – من خارج القبيلة – العلامة الشيخ لمرابط محمذ فال بن المختار بن محمذ بن أحمد بن أعمر الإدكفودي المشهور بـ (ﻣﺤﻤﺬ ﻓﺎﻝ ﻣﺘّﺎﻟﻲ) والذي تلقى علومه الأولى في محضرة المؤيد بن المصيوب الكمليلي؛ وكذلك العلامة الشيخ محمد آسكر بن سيديا بن محم الغلاوي الذي أخذ عن العلامة الشيخ المستعين بالله بن طلحة الكمليلي وغيرهم كثير.
ومن داخل القبيلة برز عدد من فطاحل العلماء؛ بين من أسس لهذه المحظرة؛ ومن تخرج منها؛ وساهم في تدعيم أركانها؛ وتوثيق عراها؛ ومن أمثال أولئك العلامة المؤيد بن المصيوب الكمليلي؛ والعلامة أدييج بن عبد الله بن حبيب الله الكمليلي؛ والعلامة الشيخ المستعين بالله بن طلحة الكمليلي؛ والعلامة محمد بن عبد القادر بن الأمين الكمليلي؛ والعلامة الشيخ عبد الله بن سيد محمود الكمليلي؛ والعلامة الشيخ السالم بن أغربط الكمليلي؛ وكذلك العلامة المعاصر محمدو الكمليلي؛ الملقب (الداه) والذي أطلق عليه أحد مشايخه؛ وهو العلامة الموسوعي المختار بن حامدن اسم “محمدو المعاصر” للتفريق بينه مع جدنا العلامة محمدو الكبير.
من هذه القبيلة – وما اتسمت به من حركة علمية؛ وإسهامات كان لها الأثر البالغ في النهضة العلمية لبلاد شنقيط – خرج العالم والنحوي والأديب الكبير أحمد بن كَدَّاه: وهو أحمد بن محمذ (كَدَّاه) بن أحمد باب الكمليلي؛ المتوفي (سنةَ 1337هـ).
جمحت همة “كداه” به إلى محظرة يحظيه (أبَّاه) بن عبد الودود الإمام في النحو؛ وهناك صرف همته للتحصيل العلمي ضاربا أروع مثال في الصبر والمكابدة؛ حتى أثبت ذلك في أبياته الشهيرة:
فمن مبلغ أهلي بأني هاهنا *** أقاسي أمورا لست فيها بمنجد
يساورني جندا أبي وابن مالك *** ومن ساور الجندين لابد يجهد
أدافع جند الابن إن جاء صائلا *** ومالي بجند الجد إن جاء من يد
تضلع بن كداه من العلوم الشرعية؛ وعلوم اللغة (النحو والصرف)؛ وفي الأخيرة نبغ واشتهر؛ إلى أن قال عنه شيخه (أباه) إنه “استل النحو بجذوره”؛ وهو يعد من الطَّبقة الأولى من خرجي محظرة أهل عدود منارة علوم اللغة في بلادة شنقيط.
وترك “كداه” أنظاما كثيرة في النَّحو والصَّرف نطقت بقوة شاعريته وذائقته الأدبية الراقية جمعت في كتابٍ اسمُه (الكَدَّاهيَّة) نسبة إلى الاسم الذي لقب به وبه اشتهر.
ومن هذه المدونة نذكر بيتين يخاطب بهما شيخه (أباه) ويشير فيها للمعاني التي ترد بها كلمة “نحو” في اللغة العربية:
نحونا بأنحاءٍ من الحاج نحوكم ** تناهز نحو الألف أو هي أكثرُ
فنلنا جميع الحاج لا النحوَ عاجلا ** فنحوكمُ يا شيخ بالنَّحوِ أجدرُ
وأختم هذه الإضاءة المختصرة بالإجازة التي منحها له شيخه (أباه)؛ وقد عرفت بتميزها في أسلوبها اللغوي وإيحاءاتها النحوية؛ نورد منها هنا ما أورده محمد محفوظ بن أحمد في كتابه الذي جمع فيه ألفية ابن مالك مع احمرار ابن بونا؛ والذي ضمنه أنظام “الطرة” في الفوائد النحوية لعدد من العلماء الموريتانيين:
“… اعلموا وأعلِموا مستنصحا شاوَركم، ومُسْتخبرا حاوَرَكم، بأني أوريتُ لأحمد بن امحمد بن بابو فقبسَ؛ وأوحيتُ فنبسَ، ونجَّذت فضرَّس، فصار منِّي في التوابع بدلا ليس بعضا ولا مُباينا ولا مشتملا..إلخ”.